فصل: تفسير الآية رقم (116):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأوحى الله إلى عيسى أن اجعل رزقي في المائدة لليتامى والفقراء والزمنى دون الأغنياء من الناس، فلما فعل الله ذلك ارتاب بها الأغنياء وغمصوا ذلك، حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس، وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر، وأدرك الشيطان منهم حاجته، وقذف وساوسه في قلوب المرتابين، حتى قالوا لعيسى: أخبرنا عن المائدة ونزولها من السماء حق فإنه ارتاب بها بشر منا كثير. قال عيسى: كذبتم وإله المسيح، طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم، فلما أن فعل وأنزلها الله عليكم رحمة ورزقًا وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها وشككتم فيها، فأبشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله، وأوحى الله إلى عيسى إني آخذ المكذبين بشرطي، فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة من نسائهم آمنين، فلما كان من آخر الليل مسخهم الله خنازير، وأصبحوا يتتبعون الأقذار في الكناسات.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس. أنه كان يحدث عن عيسى ابن مريم أنه قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يومًا؟ ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم، فإن أجر العامل على من عمل له، ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير قلت لنا إن أجر العامل على من عمل له، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يومًا ففعلنا، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يومًا إلا أطعمنا، {هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء} إلى قوله: {أحدًا من العالمين} فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم.
وأخرج الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنزلت المائدة من السماء خبزًا ولحمًا، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد، فخانوا وادخروا ورفعوا لغد، فمسخوا قردة وخنازير».
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من وجه آخر عن عمار بن ياسر موقوفًا مثله. قال الترمذي: والوقف أصح.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر قال: نزلت المائدة عليها ثمر من ثمر الجنة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: المائدة سمكة وأريغفة.
وأخرج سفيان بن عيينة عن عكرمة. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لولا بنو إسرائيل ما خنز الخبز ولا أنتن اللحم، ولكن خَبَّأوه لغد فأُنتن اللحم وخنز الخبز».
وأخرج ابن الأنباري في كتاب الأضداد عن أبي عبد الرحمن السلمي في قوله: {أنزل علينا مائدة من السماء} قال: خبزًا وسمكًا.
وأخرج ابن الأنباري وأبو الشيخ في العظمة عن سعيد بن جبير قال: نزلت المائدة وهي طعام يفور، فكانوا يأكلون منها قعودًا، فأحدثوا فرفعت شيئًا فأكلوا على الركب، ثم أحدثوا فرفعت البتة.
وأخرج ابن الأنباري عن وهب بن منبه قال: كانت مائدة يجلس عليها أربعة آلاف فقالوا لقوم من وضعائهم: إن هؤلاء يلطخون ثيابنا علينا فلو بنينا لها دكانًا يرفعها، فبنوا لها دكانًا فجعلت الضعفاء لا تصل إلى شيء، فلما خالفوا أمر الله عز وجل رفعها عنهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ عن عطية العوفي قال: المائدة سمكة فيها من طعم كل طعام.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة. أن الخبز الذي أنزل مع المائدة كان من أرز.
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: نزل على عيسى ابن مريم والحواريين خوان عليه خبز وسمك، يأكلون منه أينما تولوا إذا شاؤوا.
وأخرج ابن جرير وابن الأنباري في كتاب الأضداد من طريق عكرمة عن ابن عباس في المائدة قال: كان طعامًا ينزل عليهم من السماء حيثما نزلوا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: هو الطعام ينزل عليهم حيث نزلوا.
وأخرج ابن جرير عن إسحاق بن عبد الله. أن المائدة نزلت على عيسى ابن مريم، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات يأكلون منها ما شاؤوا، فسرق بعضهم منها وقال: لعلها لا تنزل غدًا فرفعت.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن الأنباري وأبو الشيخ عن قتادة قال: ذكر لنا أنها كانت مائدة ينزل عليها الثمر من ثمار الجنة، وأمروا أن لا يخبئوا ولا يخونوا ولا يدخروا لغد بلاء أبلاهم الله به، وكانوا إذا فعلوا شيئًا من ذلك أنبأهم به عيسى، فخان القوم فيه فخبأوا وادَّخَروا لِغدٍ.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: أنزل على المائدة كل شيء إلا اللحم. والمائدة الخوان.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن ميسرة وزاذان قالا: كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت الأيدي فيها بكل طعام.
وأخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه سئل عن المائدة التي أنزلها الله من السماء على بني إسرائيل؟ قال: كان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة، فأكلوا ما شاؤوا من ضروب شتى، فكانت يقعد عليها أربعة آلاف، فإذا أكلوا أبدل الله مكان ذلك بمثله، فلبثوا بذلك ما شاء الله.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {أنزل علينا مائدة من السماء} قال: هو مثل ضرب ولم ينزل عليهم شيء.
وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: مائدة عليها طعام أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا، فأبوا أن ينزل عليهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن الحسن قال: لما قيل لهم {فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابًا} قالوا: لا حاجة لنا فيها فلم تنزل عليهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين} قال: ذكر لنا أنهم لما صنعوا في المائدة ما صنعوا حوِّلوا خنازير.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: {فمن يكفر بعد منكم} بعد ما جاءته المائدة {فإني أعذبه عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين} يقول: أعذبه بعذاب لا أعذبه أحدًا غير أهل المائدة.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن عبد الله بن عمرو قال: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة والمنافقون وآل فرعون.
وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ {إني منزلها} مثقلة. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قرأ نافعٌ وابنُ عامرٍ وعاصمٌ: {مُنَزِّلُهَا}: بالتشديد، فقيل: إنَّ أنْزَلَ ونَزَّلَ بمعنًى، وقد تقدَّم تحقيق ذلك، وقيل: التشديدُ للتكثير، فإنها نزلت مرَّاتٍ متعددة.
قوله: {بَعْدُ}: متعلِّق بـ {يَكْفُرْ}، وبُنِي؛ لقَطْعِه عن الإضافة؛ إذ الأصل: بَعْدَ الإنْزَالِ، و{مِنْكُمْ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حال من فاعل {يَكْفُرْ}، وقوله: {عَذَابًا} فيه وجهان:
أظهرهما: أنه اسمُ مصدرٍ بمعنى التعذيب، أو مصدرٌ على حذفِ الزوائد؛ نحو: «عَطَاء ونَبَات» لـ «أعْطَى» و«أنْبَتَ»، وانتصابُهُ على المصدريَّة بالتقديرين المذكورين.
والثاني- أجازه أبو البقاء-: أن يكون مفعولًا به على السَّعَة، يعني: جَعَلَ الحَدَثَ مفعولًا به على السَّعة؛ مبالغةً، وحينئذٍ يكون نصبه على التشبيه بالمفعول به، والمنصوبُ على التشبيه بالمفعول به عند النحاة ثلاثةُ أنواعٍ: معمولُ الصفةِ المشبهة، والمصدرُ، والظرفُ المتَّسَعُ فيهما:
أمَّا المصدرُ، فكما تقدَّم، وأمَّا الظرفُ، فنحو: «يَوْمَ الجُمُعَةِ صُمْتُهُ»، ومنه قوله في ذلك: [الطويل]
وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْمًا وعَامِرًا ** قَلِيلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهَالِ نَوَافِلُهْ

قال الزمخشريُّ: «ولو أُريدَ بالعذاب ما يُعَذَّبُ به، لكان لابد من البَاءِ».
قال شهاب الدين: إنما قال ذلك؛ لأنَّ إطلاقَ العذاب على ما يُعَذَّبُ به كثيرٌ، فخاف أن يُتوهَّمَ ذلك، وليس لقائلٍ أن يقول: كان الأصلُ: بِعَذَابٍ، ثم حذفَ الحرف؛ فانتصب المجرورُ به؛ لأنَّ ذلكَ لم يَطَّرِدْ إلاَّ مع «أنْ» و«أنَّ» بشرطِ أمْنِ اللَّبْسِ.
قوله: {لاَ أعَذِّبُهُ} الهاءُ فيها ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنها عائدة على «عَذَاب» الذي تقدَّم أنه بمعنى التعْذِيب، والتقدير: فإنِّي أعَذِّبُهُ تَعْذِيبًا لا أعَذِّبُ مِثْلَ ذَلِكَ التَّعْذيبِ أحَدًا، والجملة في محلِّ نَصْبٍ صفةً لـ {عَذَابًا}، وهذا وجه سالمٌ من تَكَلُّفٍ ستَرَاهُ في غيره، ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا لوجه- أعني عودَها على {عَذَابًا} المتقدِّم- قال: «وفيه على هذا وجهان:
أحدهما: على حَذْفِ حرف الجر، أي: لا أعَذِّبُ به أحدًا، والثاني: أنه مفعولٌ به على السَّعة»
.
قال شهاب الدين: أمَّا قوله: «حُذِفَ الحَرْف»، فقد عرفْتَ أنه لا يجوز إلا فيما استثني.
الثاني- من أوجه الهاء-: أنها تعودُ على «من» المتقدِّمة في قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ}، والمعنى: لا أعَذِّبُ مِثْلَ عَذَاب الكَافِرِ أحَدًا، ولابد من تقدير هذين المضافَيْنِ؛ لِيَصِحَّ المعنى، قال أبو البقاء في هذا الوجهِ: «وفي الكلامِ حَذْفٌ أي: لا أعذِّبُ الكَافِرَ، أي: مثل الكافرِ، أي: مثل عذابِ الكَافر».
الثالث: أنها ضميرُ المصدرِ المؤكِّد؛ نحو: «ظَنَنْتُهُ زَيْدًا قَائِمًا»، ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجه، اعترضَ على نفسه، فقال: «فإنْ قلْتَ: {لا أعَذِّبهُ} صفةٌ لـ «عَذَاب»، وعلى هذا التقدير لا يعودُ من الصفة على الموصُوف شَيْءٌ، قيل: إنَّ الثانِيَ لما كان واقعًا موقعَ المصدر والمصدرُ جنْسٌ، و{عَذَابًا} نكرةٌ، كان الأوَّل داخِلًا في الثاني، والثاني مشتملٌ على الأوَّل، وهو مثل: زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ». انتهى، فجعل الرابطَ العمومَ، وهذا الذي ذكرهُ من أنَّ الربْطَ بالعمومِ، إنما ذكره النحويُّون في الجملةِ الواقعةِ خبرًا لمبتدأ، ولذلك نظَّره أبو البقاء بـ «زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ»، وهذا لا ينبغي أن يُقاسَ عليه؛ لأن الربطَ يحصُلُ في الخبر بأشياءَ لا تجوز في الجملة الواقعةِ صفةً، وهذا منها، ثم هذا الاعتراضُ الذي ذكره واردٌ عليه في الوجه الثاني؛ فإنَّ الجملة صفةٌ لـ {عَذَابًا}، وليس فيها ضميرٌ، فإن قيل: ليست هناك بصفة، قيل: يَفْسُدُ المعنى بتقدير الاستئناف، وعلى تقدير صحَّته، فلتكنْ هنا أيضًا مستأنفةً، و{أحَدًا} منصوبٌ على المفعُول الصريحِ، و{مِنَ العَالمِينَ} صفةٌ لـ {أحدًا} فيتعلَّق بمحْذُوف. اهـ.

.تفسير الآية رقم (116):

قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ومن الأمر الجلي أن عيسى عليه السلام بعد أمر الله تعالى له بذكر هذه النعم يقول في ذلك الجمع فيذكرها ويذكر المقصود من التذكير بها، وهو الثناء على المنعم بها بما يليق بجلاله، فيحمد ربه تعالى بمحامد تليق بذلك المقام في ذلك الجمع، فمن أنسب الأمور حينئذ سؤاله- وهو المحيط علمًا بمكنونات الضمائر وخفيات السرائر إثر التهديد لمن يكفر- عما كفر به النصارى، فلذلك قال تعالى عاطفًا على قوله: {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك} [المائدة: 110]
{وإذ قال الله} أي بما له من صفات الجلال والجمال مشيرًا إلى ما له من علو الرتبة بأداة النداء: {يا عيسى بن مريم} وذلك تحقيقًا لأنه عمل بمقتضى النعمة وتبكيتًا لمن ضل فيه من النصارى وإنكارًا عليهم {أأنت قلت للناس} أي الذين أرسلت إليهم من بني إسرائيل، وكأنه عبر بذلك لزيادة التوبيخ لهم، لكونهم اعتقدوا ذلك وفيهم الكتاب، فكأنه لا ناس غيرهم {اتخذوني} أي كلفوا أنفسكم خلاف ما تعتقدونه بالفطرة الأولى في الله بأن تأخذوني {وأمي إلهين}.